![]() |
جماليات التناص |
جماليات التناص في الشعر
إثارة الذاكرة الشعرية.
تعتبر عملية التناص من الوسائل الفنية التي يوظفها الشاعر ليبعث ثراثه الحضاري من جديد، فالنصوص المغمورة أو الميتة أو المهملة دلاليا وإديولوجيا تحيا من جديد في النصوص التي تعيد كتابتها، فتؤدي وضائفها التي كتبت من أجلها، وهذه الفكرة تنبهنا إلى ضرورة إعادة النظر في نظام قراءتنا للنص، سواء أكان قديما أم حديثا أو معاصر
عندما يوظف الشاعر هذه النصوص في نتاجه إنما يوضف تلك النصوص التي استولت على ذاكرته لإستجابات فنية ,أو من تلك النصوص التي فرضت نفسها، لأن الشاعر يحتفظ فقط بتلك التجارب ذات القيمة الرمزية، فالذاكرة المتحررة التي تمارس عملها بطريقة خاصة يستطيع الشاعر من خلالها أن يجدد العهد لتجارب ماضية وبتأثيرات حسية معينة,يعيدها فتبدو كأنها تحدث أول مرة عن طريق خياله البدع,وكل شاعر عظيم له ذاكرة قوية تمتد إلى ماوراء التجارب الضخمة.
والتقاليد الأدبية الموارثة هي المكون الأكبر لذاكرة الشاعر، وهي عزائم ستراها تتكسر على بعضها كما تتكسر النصال على النصال..لن تكون كلها سوى حوافر تقع على حوافر، غرست من قبل في جبين الزمن سابقة حتى وجودك بل مكونة لوجودك.
ووقع الحوافر على الحوافر هو الذي يولد التناص الذي يعد عملا لذاكرة المبدع والمتلقي على السواء، ووسيلة من وسائل التواصل بينهما، وقسطا مشتركا من التقاليد الأدبية والمعاني,وهو بمثابة السياق الذي تحدث عنه جاكسون والذي لا تتحدد هوية النص إلا بوجوده، فالسياق إذا هو الرصيد الحضاري للقول تغذيه مادة بوقود حياته وبقائه "3"الغدامي عبد الله، المرجع نفسه، ص8. وهو الذاكرة المعرفية للشاعر لحظة النظم وللقارئ لحظة التلقي، غير أن السياق كتقليد أدبي لايكون مجرد محاكاة لما سبقه من نصوص مماثلة تجعل النص فاشلا عقيما، وإنما لكل سياق رمزه الخاص؛ الذي ينتشله من التقليد المفضوح، فكل مبدع قادر على ابتكار رمزه الذي يحمل خصائصه جنبا إلى جنب مع خصائص رمز السياق الخاص بجنسه الأدبي الذي أبدع فيه، وهذا بشلار يشير إلى أن لكل أديب تعامل خاص بالمواد الأم,حيث يتعامل معها تعامل حميمي إتباعا لحالته النفسة,ومايريد أن توحي إليه وذالك في التشكيلات المختلفة.
حوصلة
ومعنى هذا أن كل نص أدبي هو حالة توالد عما سبقه من نصوص تمثله في جنسه الأدبي,فالقصيدة الغزلية _على حد تعبير عبد الله الخزامي_ انبثاق تولد عن كل ماسلف من شعر غزلي ,وليس ذالك السالف سوى سياق أدبي لهذه القصيدة التي تغذيها فصارت مصدرا لوجودها النصوصي، وهذا يعني تشابك الرمز والسياق تشابكا عضويا نحقق وجودهما.
ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا الرأي الذي يقيم حدود بين الأجناس الأدبية فيجعل كل نص يستمد سياقه من جنس يماثلههو في الحقيقة رأي خاص لا يمثل إلا صاحبه، لأن نظرية التناص تهدم هذه الحدود لتترك الأجناس الأدبية تتبادل العلاقات فيما بينها، زمن ثمة قد يحيل الشاعر في نصوصه إلى أجناس مخالفة للجنس الذي يكتب فيه، فالقصيدة قد تتداخل مع الخطبة والمقامة والقصة القصيرة... من أجل إبقاء ذالك المأثور حيا أو إعادة لحياة له بصورة معاصرة، وحفاظا على الثقافة وتذكيرا بها لأن ذاكرة الشاعر تتضمن الأفكار والأخييل التي تركها المبدعون في كتبهم(آثار كتب، لوحات فنية، نماذج موسيقة...) هذه التجارب تتيح للشاعر الإطلاع الواسع.
كثير هم الشعراء الذين بلغو غاياتهم بتوظيفهم المألوف المحبوب الذي يدخل في حدود الخبرة المعتادة ذات الجذور العميقة في النفس المستقرة في الاشعور العام، ولعل ماقدمه بعض الشعراء في إطار إعادة صياغة التراث يعد من التناص الذي يوظف التراث ويستشرف الجديد، إستحضار وقائع تارخية ماضية ثم يحررونها للتعبير عن واقع راهن، ميزة هذا النوع أنه يمنح أدوات الخلق الشعري قدرة هائلة على التوصيل بسبب توضيف المخزون العاطفي لثقافة مشتركة بين المبدع والمتلقي.
التعبير عن تجارب فنية خاصة
وهناك نوع آخر من أنواع التناص إستغله الشعراء استغلالا جيدا، بتوظيف نص أو نصوص شعرية سابقة بغية التعبير عن تجارب فنية خاصة، تربطها علاقة بالنصوص المشتغل عليها، لكنها علاقة لا شعورية، حتى إذا خلصو من أعمالهم، أدركوا أن نتاجهم تداخل مع نصوص أخرى وأنهم قد قدمو أعمالا متميزة، ومن الأمثلة التي تجعل ذاكرة المتلقي تساهم في كتابة النص مرة أخرى قول الشاعر أحمد شوقي:
هذه الربوة كانت ملعبا لشبابنا وكانت مرتعا.
كم بنينا من حصاها أربعا. وانثنينا فمحونا الأربعا.
وخططنا في نقا الرمل فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعى .
فهذه الأبيات تعيد لذاكرتنا بيتين لشاعرين من عصرين مختلفين,بيتان لذي الرمة صور فيهما أساه وحصرته في إحدى عشيات غياب من يحب فقال:
عشية مالي حيلة غير أنني بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفي والغربان في الدار وقع.
أما البيتان الآخران للعباس بن الأحنف حين قال:
كتبت كتابي ما أقيم حروفه لشدة إعوالي وطول نحيبي
أخطوأمحو ماخططت بعبرة تسح على القرطاس سح غروب.
فأبيات أحمد شوقي تمتص دوال بيتي كل من ذي الرمة والعباس بن الأحنف بطريقة فنية مما يجعلنا نرى أستقلالية وتفرد لكل منهم، ونقتصر على رصد التناص بين أحمد شوقي وذي الرمة على النحو الآتي:
- أ/ ذو الرمة:وضع الصورة في إطار من الحسرة والضيق ويبدو ذالك من خلال دلالة الزمان والمكان.
- ب/ شوقي: وضع الصورة في اطار يعج بالسعادة واللعب والمرح ويبدو ذالك من خلال دلالة الزمان والمكان أيضا.
- أ/ذو الرمة: ينتشر في خطابه اللون الأسود فانعكس على طريقة القول الشعري والإيقاع الموسيقي فورد الخطاب بضمير المتكلم، وجاء الإيقاع بحرف العين رويا باستخدام البحر الطويل.
- ب/شوقي: ينتشر في أبياته اللون الوردي، وجاء الإيقاع مناسبا لذالك حيث بنى مقطعه على البحر الرملي وجعل حرف العين المفتوحة رويا، أما الخطاب فجاء على لسانه في حضور من يهوى.
حوصلة
ومثل هذا التوظيف الذي يتداخل فيه نص شاعر مع نصوص أخرى يرقى إلى مرتبة الأستادية على حد تعبير بعضهم، لأن أوجه الإختلاف في الصورتين أكثر من أوجه التشابه، الأمر الذي يبعد أبيات شوقي عن التقليد المفضوح ويمنحه تفردا وخصوصية في إطار استعادة اصورة الجديدة للصور القديمة
وليس عيبا يحط من قيمة المبدع أن تحفل قصيدته بدوال نص سابق فالوظيفة التي يقدمها التناص للنص هي تزويده بتلك الإشارات والإيماءات التي يحيل عليها النص فتمنحه قيمة ومعنى.
تعليقات
إرسال تعليق