قراءة في رواية" في انتظار البرابرة" للروائي جون ماكسويل كوتزي.
في انتظار البرابرة" هي رواية "كويتزي" الثانية التي تحوز على جائزة، فهي استعارة للحرب بين المضطهد. إنها رحلة القوة الرهيبة الغاشمة، فليس القاضي إنساناً يعيش أزمة ضمير في مكان غامض وأزمنة بعيدة فحسب، بل حالته هي حالة كل البشر الذين يعيشون، ويشتركون في جريمة لا تحتمل مع أنظمة تقيم وجودها فوق العدالة والحياة الكريمة. نحاول من خلال هذا الطرح استعراض أهم أحداثها و عرض أجواء الرواية و بالاضافة لمكانتها في الادب الافريقي و العالمي و أهم الاراء النقدية التي حظيت بها .فماهي أحداثها و كيف عالجت الواقع الافريقي ؟ و كيف تطرق الكاتب للقضايا المختلفة.
1.الأدب الإفريقي La littérature africaine:
يشتمل الأدب الإفريقي على التراث الشفهي والآداب المكتوبة بلغات بعض الشعوب وغيرها من الشعوب التي تعيش في بعض أجزاء القارة السوداء، ولاسيما إلى الجنوب من الصحراء الكبرى. ومع أنه لا يمكن الادعاء بوجود وحدة ثقافية أصيلة بين الشعوب الكثيرة التي تعيش في هذه القارة، إلا أنه لا يمكن أيضاً إنكار الملامح الحضارية المشتركة التي تعم شعوبها، وقد بدأت هذه الملامح تظهر بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، إذ أخذت تبرز حالة من الوعي السياسي الذي يدل على الانتماء الحضاري للأفارقة، وذلك من خلال بعض الحركات أو التنظيمات الإفريقية مثل حركة عموم إفريقية. ولعل من الضروري التنبيه على أهمية معالجة المظاهر الحضارية في القارة الإفريقية بعيداً عن الحضارة العربية في شمالي القارة حيث تسود الثقافة العربية الإسلامية، وهي حضارة ذات ملامح خاصة ومنفصلة عن الحضارة الإفريقية في مناطق أخرى.و من بين أبرز الروايات التي لقت اهتماما كبيرا رواية في انتظار البرابرة للكاتب جون ماكسويل كوتزي.
2.التعريف بصاحب الرواية ,جون ماكسويل كوتزي JOHN MAXWELL COETZEE (9 فبراير 1940):
روائي وكاتب مقالات ومترجم ملم بالعديد من اللغات وحامل للجنسية جنوب الأفريقية. حاز كوتزي على جائزة نوبل في الأدب في عام 2003، وحصل أيضًا على جائزة بوكر الأدبية مرتين، وجائزة وكالة الأنباء المركزية الأدبية ثلاث مرات، بالإضافة إلى جائزة القدس وجائزة فيمينا الأدبية وجائزة الرواية العالمية المقدّمة من صحيفة تايمز الأيرلندية، فضلًا عن غيرها من الجوائز وشهادات الدكتوراه الفخرية.
يُعتبر كوتزي أحد أكثر مؤلفي اللغة الإنجليزية نيلًا لاستحسان النقاد، بالإضافة إلى كونه أكثرهم تكريمًا
3.الدراسة الخارجية للرواية :
الرواية بعنوان في انتظار البرابرة نشرت لاول مرة سنة 1980، أما الطبعة التي قمت بالدراسة عليها فهي نسخة الكترونية مترجمة للعربية للمترجمة ابتسام عبد الله ، و هي الترجمة الاولي للرواية التي صدرت سنة2000،عن المجلس الاعلى للثقافة في مصر، القاهرة، ضمن المشروع القومي للترجمة.
في الغلاف الخارجي للرواية يظهر اسم الكاتب في اعلى الصفحة و تحته العنوان بلون احمر و بخط كبير و تتوسط الصفحة لوحة تظهر بلون قريب للرمادي لخمس بومات في حالة هدوء و ترقب أشبه بالانتظار الذي ورد في عنوان الرواية.
زمر البومة و كما هو معروف تاريخيا و عبر مختلف الحضارات فهي رمز للتشاؤم و السوداوية ، فالبومة في العالم الشرقي تعد نذيراً بالشؤم, فهو يقيم على الأشجار الكبيرة العالية وفي الأماكن الخربة التي لا يرتادها الإنسان كثيراً، وربما لم يشاهدها الكثيرون، وتصدر صياحاً حزينا قد يخيف الناس في الليالي المظلمة، ولذلك فقد اعتبرها الناس فألاً سيئاً ونذير شؤم.
غير انها في أوروبا وأمريكا أيضا يرمز بالبومة إلى الحكمة، حيث تمجد الاساطير اليونانية البومة وتحيط من حولها هالة من الحكمة. لكن في الرواية التي بين ايدينا فهي ترمز أكثر للواقع بكل ما يحمله من شؤم و حقيقة ..
4.رواية في انتظار البرابرة:
تدور الأحداث في مدينة صغيرة، لا اسم لها، تقع على حدود إمبراطورية عظمى، لا اسم لها. يدير شؤون المدينة قاض ورئيس مدينة يجمع الضرائب ويحل الخلافات الصغيرة. فجأة يهبط على القاضي مسؤول كبير من العاصمة يقول إنه يعلن على الحدود كلها حالة الطوارئ، حيث إن الإمبراطورية مهددة بهجوم «البرابرة»، وإن هناك حملات عسكرية قادمة لصد العدوان وحماية الحدود . رجل العاصمة القادم يحمل كل خصائص رجل المخابرات، ويمارس على الحدود وفى المدينة نظام الاعتقال العشوائى والتحقيق والتعذيب لكي يستخلص من أناس بدائيين، يشتغلون بالرعي والزراعة البسيطة، اعترافات بأخطار وهمية ومؤامرات ضد الإمبراطورية.
القاضي لا يقبل هذه الأوهام ويقف ضد التعذيب، والإرهاب الذي يحول المدينة إلى معتقل كبير، يمارس رجل العاصمة فيه حفلات تعذيب رومانية لا مبرر لها.
في صفوف المعتقلين رجل عجوز وابنته. الرجل يستفز من تعذيب ابنته أمامه، وفى ثورة حمقاء يقاوم الجنود الذين يقومون بالتعذيب فيقتل، وتبقى الفتاة حيواناً برياً مصاباً في أقدامه وتكاد تفقد بصرها.
يقع القاضى المثالي المشغول بجمع تراث المنطقة وتاريخ قبائلها في شباك هذا الموقف الإنسانى المعقد.الوحيد الذي يحاول أن يضمد جراح روح وجسد الفتاة، وهو الكهل المثالى، فيقع في غرام جنسي عاطفى إنساني متشابك تستقبله الفتاة بامتنان واستغراب وفضول.أمام العلاقات الإنسانية المركبة، وبعد أن تتماثل جراح الفتاة للشفاء، يقرر القاضي إعادتها إلى قبائلها التي ترعى على الحدود،
تكون هذه فرصة الإدارة الإمبراطورية لاتهام القاضي بالتآمر مع البرابرة (الذين لا وجود لهم) ضد الإمبراطورية، فبعد أن يعيد الفتاة إلى أهلها، ويعود يقبض عليه، وتمارس ضده أغرب وأقسى أنواع التعذيب والإهانة لمجرد أنه مارس شعورا إنسانيا طبيعيا تجاه الأوهام التي يصنعها رجال الإمبراطورية لتبرير القهر والتعذيب والاضطهاد الذي يمارس كغطاء للاستغلال. يقول القاضي في حديثه مع نفسه، الذي لا ينقطع طوال الرواية:
''أتمنى لو أن هؤلاء البرابرة!! يثورون ويعلموننا درساً من أجل أن نتعلم احترامهم، رغم أننا هنا منذ مائة عام أو أكثر إلا أن هذه بلادهم ونحن بالنسبة لهم زوار عابرون، يوما ما سيكون علينا الرحيل''
''القوة العسكرية لا ترى ذلك.. ترى أن هذه البلاد ملك لنا وأننا هنا مخلدون''
"غرام القاضى الكهل بالفتاة البرية لا يحجب خط العمل الأساسى الذي يناقش إنسانية نظام الحكم وأهداف السلطة"
نحن هنا أمام عمل أدبى فريد: بناء كلاسيكى متأثر بالشعر عند «ريلكه» وبأسلوب «فوكنز» في اللغة الكثيفة المحملة بالمعانى، مع عبثية ورمزية روبرت موزيل وبكيت، وروح جوجان، الرسام الساحر الذي نقل بدائية الغابة إلى قلب الإبداع الحديث.
"أردت أن أعيش خارج التاريخ.أردت أن أعيش خارج التاريخ الذي تفرضه إمبراطورية على مواطنيها الخاسرين.لم أرغب قط للبرابرة أن يكون عليهم لزاماً تحمل مسؤولية تاريخ إمبراطورية"
يقدم هذا الاقتباس فكرة مبسطة عما قد يجده قارئ الكتاب،امبراطوية تكتب تاريخها باسقاط مواطني حدودها في دوامة من الانتظار ،الترقب و الخوف الدائم من اللاشئ الذي هو نفسه البرابرة ، و بتحول اللاشئ الى بربري يتحول البربري ليكون الغذاء لتاريخ الامبراطورية التي تقوم باستغلال مواطنيها و البرابرة على حد سواء..
هل يرمز الى شيء ما بخصوص الحضارة ؟! الحضارة المتبربرة ! الامبراطورية المتحضرة والتي ترتكب أفظع الجرائم والأساليب المقيتة ! هل يحاول الكاتب هنا وصف الكثير من الحضارات المعاصرة والتي يخرج من رحمها أبشع الأعمال اللا إنسانية.
5.أراء حول الرواية :
الاحداث مزعجة بالطريقة الحقيقية والواقعية التي تصوّر بها العالم، كما لا تفعل معظم الروايات والكتب.لا تنتمي رواية كوتزي لعالم وردّي جميل يحتوي رومانسيات مثالية وينتصر فيه الخير في النهاية بكل سهولة، بل على العكس، في سطورها ستقرأ الفراق والألم والوحشية، العذاب والحيرة والتاريخ الذي يُمحى ولا يكتب لشعوب وحضارات كاملة، الظلم والحروب التي تنشأ فجأة، ستقرأ عن “صناعة الغول” من قبل الحكومات.
تجري أحداث الرواية في بقعة حدودية صحراوية من إمبراطورية ما، في حقبة زمنية بعيدة عن التطور والحضارة، ما نعرفه هو أنّ الإمبراطورية تجتزئ شيئًا فشيئًا من أماكن وجود قبائل البرابرة البدائية، حتى أصبحت تلك القبائل تعيش على تخوم أراض وواحات كانت لها يومًا.
من هم البرابرة؟ تتوقف الإجابة هنا على كل طرف، بالنسبة للحاكم فهم “غول” ينبغي إخافة الشعب منه، واستنزاف كافة الموارد في القضاء عليه.بالنسبة للقاضي، الذي تدور على لسانه الرواية، هم شعب مسكين بسيط يُخدع ولا يؤذي وتربطه بالمنطقة علاقة تعايش طويلة الأمد.وبالنسبة لقارئ الرواية سيكتشف أن قصة البرابرة مستمرة حتى اللحظة في كل مكان، ولعله السبب الذي دفع الكاتب لعدم تحديد زمان أو مكان الرواية.
اصطناع الذعر والأعداء الوهميين بغية إبقاء الشعوب تحت سلطة الخوف من المجهول، الفوضى والجوع والهلع والصوت الجمعي غير المستجيب لنداءات الإنسانية نتيجة ذلك كلّه،
الرواية عميقة للغاية ،واعتقد هذا هو المبرر لتلك المشاهد المزعجة التي تخللتها، هناك تناقضات في عقل الإنسان بحد ذاته ، ناهيك عن الدول والامبراطوريات.
فهي استعارة للحرب بين المضطهد. إنها رحلة القوة الرهيبة الغاشمة، فليس القاضي إنساناً يعيش أزمة ضمير في مكان غامض وأزمنة بعيدة فحسب، بل حالته هي حالة كل البشر الذين يعيشون، ويشتركون في جريمة لا تحتمل مع أنظمة تقيم وجودها فوق العدالة والحياة الكريمة...الكلمات الختامية في الرواية تقول:"أنا مثل رجل ضل طريقه منذ زمن بعيد، ولكنه يصر على المضى في طريق طويل قد لا يؤدى إلى أي مكان"
رواية «فى انتظار البرابرة» للكاتب الجنوب أفريقي كوتزي مدخل فني محكم الصنعة وحسن البناء إلى عالم بلا حدود من المشاكل الإنسانية والسياسية التي سيطرت على القرن العشرين، ومازالت تحتل القرن الجديد: الاستعمار والعنصرية واختفاء المعنى الحقيقي للديمقراطية والعدل، ومقدرة الإنسان، الذي يدعي التحضر والمدنية، على ارتكاب أقسى وأبشع الجرائم ضد الآخر بدعاوى كاذبة للتمدين، بينما العلاقة قائمة على الكذب والاستغلال حتى النخاع.
تعليقات
إرسال تعليق