القائمة الرئيسية

الصفحات

رسالتان، من: عبد العزيز بوباكير إلى واسيني الأعرج/ من واسيني الأعرج إلى عبد العزيز بوباكير


رسالة بوباكير عبد العزيز إلى واسيني
رسالتان بين عزيز بوباكير وواسيني الأعرج


 


رسالة من عبد العزيز بوباكير

إلى واسيني,


حبيبي واسيني...

      باعدت بيننا المسافات والكورونا، وإلا طرت أنا إلى فرنسا لأسعد بلقائك، أو جئت أنت إلى بيتي للقائي. العين بصيرة، لكن ليس في اليد حيلة.

      قرأت رسالتك إلى صديقنا الشريف مريبعي، وسررت بجملتها الأخيرة "طمئني على صحة العزيز صديقنا بوباكير" التي نزلت على قلبي بردا وسلاما، وفي الوقت نفسه تألمت، لأن الرسالة جاءت في وقت والشريف يتجرع مرارة خيانة الرجال، وأنت محاصر بالكورونا في باريس، وأنا طريح الفراش.

وليس كما قلت في اليد حيلة...

      بيننا 36 سنة صداقة، مرّت كلمح البصر، وفي غفلة منا ومن الزمن. كنت تأتي أنت وزينب إلى بيتي البارد آنذاك، لكن المفعم دفئا ومحبة، نتقاسم الأفراح وما بقي لنا من أوهام. كنت دائما شامخا كالطود، متواضع مثل سنبلة حبلى، لن نسمع منك كلمة جارحة، بل كنت تخجل من نكاتنا السمجة وألفاظنا الخشنة أحيانا. أحطت طلبتك بحنان الأب، وغفرت لمن أساءوا لك من أشباه المثقفين.

      عدت من سوريا محملا بأثقال الهموم، هموم البلد والعباد، أراد من درس معك هناك سحلك بسبب رواية، واشتكوك إلى السفير، ثم أضحوا بعد سنين يتزلفون لك نفاقا، وكان منهم من أصحاب الأحذية الخشنة من لم يكن يريد لك الالتحاق بجامعة الجزائر، وكان منهم من يغار منك لأن الطلبة يحبونك، وكان منهم من يكرهك لأنك طويل القامة وهو قريب إلى الأرض، وكان منهم من أراد دفع الوزير للانتقام منك لما التحقت بجامعة السوربون.

وكان منهم من لا يحبك لأنك نجحت في الحياة والكتابة...

واسيني ما زلت أذكر كلماتك:" يا عزيز، أنت لست مجعولا للسياسة، السياسة مهلكة، أنت أضاعك الادب"

وما زلت أذكر محاولة تهدئتك لوطار بسبب ملاحظاتي على مواقفه ورواية له

ومازلت أذكر لومك لي على كسلي ومحاولاتك حثي على نقل الآداب العالمية إلى العربية

وما زلت اذكر... وما زلت أذكر...

     أنت يا واسيني من الآباء المؤسسين للتيار الجديد للرواية الجزائرية الجديدة الحيّة الباحثة عن وسائل جديدة في التعبير وعن لغة جديدة. هل تذكر يا واسيني ما قالته فيك المستشرقة الدانماركية جون ضاحي في خنشلة:"تتسم كتابة لعرج واسيني الأدبية بشعرية تضفي على الكلمات أحيانا معان غير مقروءة بالعين والعقل. وتمتاز نصوصه بحسيّة هي أحيانا سمعية أكثر منها بصرية، بمعنى أن نصّه يؤثر على سمع القارئ أكثر مما يدفعه للتصوّر الذهني، وفي مقاطع كثيرة يشعر القارئ بتصاعد وخفوت يشبهان ما نعرفه من المقاطع الموسيقية. فلكي ننجح في نقل مثل هذا النصّ إلى لغة أخرى يجب علينا التخلي عن حواجز العقل والاستسلام الكامل للنصّ لنستفيد من القراءة الترجمية، إن صحّ التعبير، التي تختلف عن القراءة العادية".

     لم نسمع منك مرة تقول متفاخرا:" أنا ابن شهيد، ولم تنظم إلى جيش الأسرة الثورية العرمرم، الذي نسي تضحيات الآباء، وأصبح يأكل في مأدبة اللئام في مجمع الضباع، وقلت :"نضال الوالد لا يورّث".

     كنت تريد التقاعد من جامعتنا التعيسة، ورفض طلبك، ولم تريد الاستفادة من 7 سنوات التي هي من حق أبناء الشهداء. ولما تقاعدت نسي القوم خدماتك الجليلة تدريسا وتأطيرا ونصحا...

     أرخت للجزائر ومآسيها كما أرخ بلزاك لتاريخ فرنسا في "ملهاته الانسانية" وهذا يكفيك فخرا واعتزازا...

     أنت في بؤرة بباريس تحاصرها الكورونا، وأنا هنا في الجزائر أيضا تحاصرني الجائحة والجيّاح... 

ارتح واسيني

     ختاما أريد أن أذكرك بجملة من رسالة وداع غابرييل غارسيا ماركيز لأصدقائه التي تحبها :"الموت لا يأتي مع الشيخوخة، لكن مع النسيان فقط".

مودتي يا طويل العمر والقامة...

مصدر الرسالة 


رسالة واسيني الأعرج

عبد العزيز بوباكير

أستاذ الإعلام والاتصال.


إلى العزيز الحبيب بوباكير

     مرحبا. الطقس اليوم جميل، لكننا لا نراه إلا بالعين، وهو أضعف الإيمان. 

     كل الشوق لك على هذا الحب الكبير وهذا الفيض من الإنسانية الراقية,  

      عذرا يا غالي على التقصير. لم أنتبه لرسالتك العظيمة التي أعادت لي بعض الروح في هذه العزلة القاسية، تحملنا الوحيد لها يتأتى من كوننا نتقاسمها مع ستة ملايين، بل مليارات الكائنات البشرية اليوم. رسالتك يا غالي هزتني بعمق، بل أبكتني بصدقها وفيض محبتها وشجنها العميق. صداقة عمرها اليوم قرابة الأربعين سنة غلا بعض الوقت. أربعون سنة من التقاسم والمحبة والعزلة المفروضة علينا. أتذكرها لحظة بلحظة بأيامها الجميلة، ولحظاتها الاستثنائية، ولكن أيضا بفوضاها الجميلة وصياعتنا الليلية في شوارع العاصمة. 

      كان عمري ثلاثون سنة، قادم من شام العمر والقلب. كنا نلتقي في بيتنا كلما زارنا صديق قادم من وراء الحروب والبحار، أدونيس، جمال الدين بن الشيخ، رضوى عاشور، جمال الغيطاني... كم كنا جديين وكم كان الزمن رهن أيادينا لأن الحلم بعالم أجمل كان الأقوى. ولكن كنا أيضا نضحك ونسخر من حياة كانت تمر بسرعة وتضعنا يوميا على محك الحب. 

      كل ما قلته لك وفيك يا عزيزي وقتها، كنت أقوله من قلبي. من أعماقي الصادقة. موهبة خلاقة أنت وعقل نوراني وثقافة ثقيلة ومتينة، في بلاد جافة كحطبة، لكننا نحبها لأنه لم يكن لنا خيار آخر. كنت أقول دوما عنك تحديدا أنت والمرحوم الغالي أبو العيد دودو الله يرحمه، يوم استضفتكما في العدد الأول من حصتي التليفزيونية أهل الكتاب في ظل عشرية الموت، لو كنتما بالمشرق، أو باي مكان آخر في أوروبا أو آسيا، لعشتما بترجماتكما في رخاء، من المؤلفات العالمية المهمة التي تختارانها. أتذكر المرحوم مارسيل بوا عندما ترجم كتاب الأمير وأخذ حقوقه اندهش. قال: هل تدري يا واسيني أن ما أخذته من دار Actes Sud يعادل عشرة أضعاف ما أخذته على مدار نصف قرن في ترجمة الأدب الجزائري إلى اللغة الفرنسية.

      لغاتك الروسية والفرنسية والعربية طبعا تسمح لك بان تمنح الثقافة العربية ما لا تستطيع الوصول إليه. لكن شطط العيش وقسوة البلاد ضيعا كل شيء ولم نحتفظ إلا بعنصر المقاومة والحفاظ على قليل من النقاء في بلاد هجم عليها الإنكشاريون الجدد، كما كنت تسميهم وكنت أطلق عليهم لفظة بني كلبون أو ورثاء الدم.. كنت محقا في نعتك. الانكشاري لا أخلاق له إلا السلطان والمال.

    ومع ذلك وبإصرار من صداقتنا بدأت مشروعك العظيم بالترجمة من اللغة الروسية إلى العربية، وكان الصدى جميلا وكبيرا وفتح الناس عيونهم على صورتهم في الثقافة الروسية. 

      لم أكن الوحيد المندهش من أناقتك اللغوية وأنت تترجم في جامعة الجامعة الجزائر فوريا للشاعر الكبير والعظيم إيفتيشينكو. كنت تترجم بجمالية وسمو، دون أن تعيق قراءة الشاعر، وخرجنا منبهرين بإيفتيشبكو من خلالك. أنت من أدخله في قلوبنا. قرأته بالفرنسية لكن ترجمتك جعلت الكثيرين يبحثون عن هذا الشاعر في كل مكتبات العاصمة.

      لكن بلادنا كما تعرف يا غالي لا أحد يضاهيها في إجهاض كل المشاريع العظيمة بيروقراطيا وحسدا وجهلا، إما بقتلنا قتلا حقيقيا كما حدث مع صديقنا الروائي والشاعر الجمل الطاهر جاووت الذي كنا نتقاسم برفقته قهوتنا في الكثير من صباحات الأسبوع في لابراس، مقابل الجامعة المركزية، أو بخصينا لنردد شعاراتها ونصبح جزءا من الجوقة التي كنا نسخر منها كلما جلسنا في سكينة القبة، ثقتنا في ما كنا نحمله كانت كبيرة، أو بنفينا القاسي داخليا أو خارجيا، اخترت الهجرة لأني لم أكن قادر على القتل، واخترا العزلة، عزلة الصوفي والمفكر ضاربا عرض الحائط بكل المغريات.

       كل ما قلته يا غالي وصل وهو في القلب حيث لا تمسه يد ولا نفس غريب. الصداقة عزيزي بوباكير هي بالضبط ما رويته وجميل أن نسمعه ممن نحب في حياتنا لأننا عندما نموت وقتها لا أعتقد أن الأمر سيكون مفيدا أو مفرحان للغيب سطانه ونظامه؟ 

     الحبيب الغالي، يوم سألت عنك صديقنا الجميل والأبي الشريف، عميد جامعة الجزائر السابق والصديق الوفي، كنت خائفا عليك من كل قلبي لهشاشة صحتك، ونسيت هشاشة قلبي وأني كنت في المنطقة الحمراء الأكثر وباء في باريس وضواحيها. ليس إيثارا ولكنه القلب نطق. أحيانا أشكر ميليشيا الشر الثقافية في بلادنا، الذين يتمركزون اليوم من جديد في المواقع الثقافية، لأنهم دفعوني إلى الرد عليهم وكان الحبيب شريف مريبعي هناك ليقول كلمة حق ويرد بدوره عليهم ولو أنه تمناني أن أظل خارج أحقادهم. 

      ربحت من هذا لقاءك من جديد، والسؤال عنك ولو أنك دوما في الروح والقلب. لك الشكر بعدد نجوم القلب. طول العمر وكل الصحة أمام جبروت هذا الوضع. نحلم، لا يكلف الحلم الشيء الكثير لنلتقي من جديد على حافة البحر وبالضبط لمادراغ قبل أن تُسرق منا برفقة الشريف، وهناك نستعيد كل من مروا عبرها ربما كان المرحوم أحمد لمين أحدهم وعمي الطاهر بن عيشة والدكتور حسين الأعرجي، وغيرهم، ونضحك معهم حتى ولو كانوا خلف السحاب ومرتفعات الغيب، ومع موجات البحر الذي يدغدغ أقدامنا في كل ثانية.

واسيني الأعرج

جامعة السوربون/ باريس

باريس في 20/05/2020

للمزيد حول عبد العزيز بوباكير اضغط هنا

تعليقات

محتوى المقال