الغجر مروا من هنا، واسيني وذاكرة الغجر في وهران.
بقلم: زينب ديف
![]() |
رواية الغجر يحبون أيضا لواسيني الأعرج |
قصة عن مصارعة الثيران في وهران:
قصة عن مصارعة الثيران؟ للوهلة الأولى يبدو لنا الأمر غريبا قليلا، الكتابة عن رياضة تكاد تنقرض ،تثير متعة البعض و تستفز الكثيرين لدرجة رفضهم لها و اعتبارها رياضة دموية عنيفة و ظالمة للحيوان، من هنا ينطلق واسيني باستعادة رياضة مصارعة الثيران في مدينة وهران في خمسينيات القرن الماضي بالتزامن مع الثورة الجزائرية، ربما رغبة منه أيضا في استفزاز القارئ، بل و جعله يطرح التساؤل لماذا مصارعة الثيران؟ و في مدينة وهران تحديدا، بالغوص في الرواية يجد القارئ نفسه وسط عالم حي و متكامل يتشكل حوله بكل تفاصيله و تعقيداته .
رواية للغجر في وهران:
الغجر يحبون أيضا ،رواية جاءت لتقول الكثير عن أخلاق الغجر و عن تواجدهم خصوصا بوهران، و بأن مفهوم الغجري الذي ندركه بأنه مجرد هائم بلا وطن و لا أرض ينتمي لها، وحده فهم حريته و إنسانيته وبأن الأرض كلها ملكا له ،فهو جزء لا يتجزأ منها، وحده تخلص من مفاهيم الانتماء و القوميات و الصراعات الدينية و العرقية التي لا تفيد في شيء سوى في خلق المزيد من الصراعات الفارغة، إيمان قوي بالحرية ،جعله يتخطى كل هذه المفاهيم الضيقة ليعيش حريته الكاملة التي لا تتجزأ و التي لا تحتويها الانتماءات الضيقة، "نحن الغجر لا نملك أحذية، ننتعل أحذية الريح
نطير حيث نشاء ونبيت حيث القلب يريد.
بيتنا فضاء وسقفنا سماء.
أرضنا سراب تنتفي فيه الحدود... " الصفحة 11.
تجسد الرواية مرور الغجر بوهران و بأنهم كانوا جزءا منها، و تعمق أخلاقهم فهم قوم خارج الصراعات القومية و الدينية و العرقية التي تدمر العالم اليوم. فكم نحن بحاجة لهذا الإيمان الآن.
ملخص رواية الغجر يحبون أيضا:
الرواية تحكي قصة خوسي أورانو، المتادور الأخير في وهران الذي مارس هذه الرياضة في كوريدا وهران، حلبة مصارعة الثيران ،التي ما تزال معلما مهما في وهران لكن يجهل الكثيرون تاريخه.
تعلم خوسي على يد أستاذه الكبير انطونيو دي غالسيا في حلبات اشبيليا ،الذي علمه كل حركات القتال ببارعة و اللحظة المناسبة التي يطبق فيها الاستوكادا و هي اللحظة الحاسمة في المقابلة و أي خطا في تطبيقها سيكلف المتادور حياته ، خوسي اورانو الذي يعتبر مصارعة الثيران هواية و رياضة و مواجهة للأقوياء قبل أن تكون مجرد عنف و دم، فهو محب للحيوانات و مهتم بها،فهو نباتي الغذاء خوفا منه أن يصادف ثورا كان يصارعه وجبة لغدائه، دخل في نقاش طويل مع رجال الدين حول هذه الرياضة و الرفض القاطع لها بنصوص دينية من الاسلام و حتي المسيحية و اليهودية، لكن خوسي كان عقلانيا و جادلهم فكيف يقبلون أن تذبح الحيوانات و يأكل لحما ألا يعتبر ذلك قتلا و ظلما للحيوان أيضا، اذ نجد في النهاية أن عقول رجال الدين كلها تتشابه في عمقها و في القوالب الدينية التي تصنعها انطلاقا من نصوص تفسرها حسب رغبتها.
للصدفة كلمتها أيضا، يصادف خوسي الغجرية المجنونة انجلينا،القادمة مع مجموعة من الغجر من العاصمة الى وهران، بمناسبة افتتاح كوريدا وهران من جديد و لحضور مقابلة انطونيو دي غالسيا أشهر متادور في ايشبيليا،كانت انجلينا مع فرقتها يعزفون و يرقصون في مدخل الكوريدا قبل بداية المقابلة، و لما رأته لأول مرة جنت به ، و سحبته نحوها للرقص و هو مستسلم لها و لسحرها الغجري، قبل أن يكسر زوجها المشهد و يرحل بها لتتركك خوسي مسحورا بها و بكلماتها الجريئة.
انجلينا كانت حرة من كل قيود الانتماء ، فلم تكن تؤمن بمواطنة محددة .فقد تخطت هذه المفاهيم الضيقة لتكتشف حريتها الحقيقية .بينما ظل خوسي يبحث عن مواطنة عادلة في ظل الصراعات و العنصرية ضد العرب و الغجر و حتى الاسبان.أو الكاراكول، الحلزون الاسباني ، فكانت المواطنة تقسم بثلاث مواطنات، المواطنة الفرنسية الخالصة ، و مواطنة فقراء أوروبا و اليهود و يأتي في أخر السلم العرب أو المسلمين الذين اعتبروا بلا مواطنة. فكلما حدث مشكل لابد ان يكون وراءه عربي او غجري أو اسباني.
بداية مجنونة لحب قوي تحدت فيه انجلينا قيود زوجها غارسيا بيكينيو، أحد أكبر مجرمي المدينة عنفا و بشاعة ، تتشابك الأحداث و تتطور ليتعلق خوسي بأنجلينا أكثر و تكون صدمته كبيرة لما يكتشف أن الشرطة ألقت القبض وحكمت بالاعدام على والدها زباطا الذي كان مدربا و مربيا للثيران بالكوريدا، بتهمة تهريب الأسلحة لثوار جيش التحرير الذين اعتبروا مجرد ارهابيين يقتلون الفرنسيين. لكن ايميليانو زباطا_ الذي أورثه والده اسم زباطا، زعيم الثورة المكسيكية الثائر ضد الظلم و المتشبث بالخير و العدالة.و الذي قيل مغدورا في كمين مرتب من الكولونسل غواخاردو_،كان رجلا حكيما و انسانيا، وحرا ، فقد حقد على رياضة مصارعة الثيران باعتبارها مواجهة غير عادلة ،لما كان يتعرض له الثور من انهاك و اجهاد و تدريبات خاصة لاضعافه و التقليل من هيجانه.
استحضر واسيني أيضا ،بطل الثورة الجزائرية أحمد زبانا أو حميميد و صداقته مع خوسي اورانو ، صداقة قديمة جمعتهما في قبو غارغينتا، حيث كان حميميد يتدرب على مهنة التلحيم و خوسي على مهنة الكهربائي،ليجمعهما الزمن من جديد بعد أن أصبح أحدهما مصارعا بارزا للثيران و الآخر من محب لكرة القدم، لمناضل مؤمن بالدفاع عن وطنه و أرضه ،صداقة فيها الكثير من الوفاء، جولة البحث التي قام بها خوسي ليسلم دعوة المقابلة لصديقه زبانا تنتهي به في مكان عسكري ليشتبه به بأنه ارهابي يهدد أمن البلاد ، فيصدم بعد مساهدته لشربط فيديو مسجل لزبانا وهو يصرح بكل جرائمه التي هي في الحقيقة دفاع عن أرضه و حقه في الحرية.عندها يصاب خوسي بصدمة كبيرة و هو يكتشف الوجه الاجرامي لصديقه .
لكن زبانا في المقابل، هو البطل الذي اختار النضال لانه السبيل الوحيد للاسترجاع أرضع و حق شعبه في الحياة المسلوبة، و آمن بان العنف نتيجة حتمية للوضع ، فالعنف في النهاية لا يولد الا عنفا أكبر منه.
من جهة أخرى خمنيث الصياد النقابي صديق خوسي ، الذي اعتر الاعمال الارهابية ، رد فعل طبيعي ضد الظلم و القهر.
هنا جعلتنا الرواية نرى الحرب من عدة جوانب فالنضال الذي قام به الجزائريون، عظيم بالنسبة لهم لكنه خطر هدد الفرنسيين باعتبارهم مواطنين من الدرجة الأولى، و بالنسبة للاسبانيين أيضا اذ لا يخرج من دائرة عمل إرهابي يهدد أمن البلاد، ترسم لنا الرواية هنا، شخصية خوسي اورانو و هو وسط هذا الصراع و كيف يعيش كل من زبانا و انجلينا و خمينث هذه الفترة فكل يراها حسب انتمائه.و أن الأصل في هذه الرؤية هي الهويات ، فلو توضع جابنا سيتضح الظلم و تتجلى الحرية لمن يستحقها.
حلبة المصارعة، حلبة الحياة:
حلبة الكوريدا التي كنا نراها مجرد مساحة محدودة للقتال و الدم ، توسع الرواية من دائرتها لتصبح أشبه بالحياة التي نعيشها و الصراع فيها من أجل استحقاق الحياة، وحده المتادور القوي المتمسك بالحياة من يفوز في هذه المعركة،كم تتشابه المصائر أذ يدخل المتادور في كامل أناقته و زينته لواجه ثورا هائجا قويا بكل شجاعة و تحد، و لا أحد يعرف النهايات فللحلبة كلمتها ، فالمتادور ربما يتجهز للحظاته الأخيرة او ربما يتجه لموته المحتوم في كامل بهائه و قوته، و هذا ما حدث مع خوسي اورانو الذي قتله ثور هائج في لحظة الانتصار الأخيرة ، و تحول الانتصار لانكسار عنيف.
ضد النسيان و ضد الموت، إحياء لتاريخ وهران:
الرواية إحياء لجزء مهم من ذاكرة وهران، وهي خلق لعالم كنا نجهله. فكثيرا منا تبدو هذه الرياضة بعيدة عنه بحكم الثقافات أو زمن انتشارها و المكان الذي كانت تمارس فيه. لكن بعد الانتهاء من الرواية.
تجد نفسك قد خرجت كماتادرور صارع ثورا هائجا في حلبة وهران، هنا استحضر قول خوسي خلال حصة تدريب للاطفال الصغار بعدما اعتزل مصارعة الثيران و أكتفى بتدريب الاطفال، في انتظار مقابلته الاخيرة، قد لا يكتب لكم ان تصارعوا ثورا حقيقيا، بالفعل ليس بالضرورة مصارعة ثور حقيقي بل يكتفي ان تملك روح متادور و شجاعته، لتواجه الصعوبات التي تصادفك يوميا في الحياة.
اذ لا يمكن لقارئ الرواية ان يزور كوريدا وهران و لا يسمع صوت خوسي و رائحة عطر انجب و فوضى مصارعة الثيران،موسيقى جورج بيزي، موسيقى كارمن ،والعديد من الأصوات التي لا يمكن أن تغادر مسامعنا و نحن نتجول في كوريدا وهران ، إذ أصبح للمكان عطر و صوت و ذاكرة حية، و أنا أزوره لأول مرة تخيلت انجي مرت مسرعة بشعرها الغجري و ملابسها الملونة ،تبعتها عبثا لم أعثر سوى على خيط من العطر المتلاشي كان مزيجا من روائح وحدها تعرف سرها، كنت ارى خوسي في كامل اناقته يستعد لمواجهته الاخيرة. العديد من المشاهد التي صنعتها الرواية تظل مرتبطة بالمكان، فالرواية صناعة لذاكرة أخرى.
فالنص لم يصف المكان و يسترجع جزءا من ذاكرته فقط، بل تجاوزه لبث الحياة فيه من جديد، فكوريدا وهران التي كانت مبنى ميت شهد اطلاق الرواية لأول مرة و فتح للزوار ليكتشفوا سحر هذا المكان عن قرب، هنا نكتشف قدرة الرواية الكبيرة من نص لمكان حي وواقعي، قد يعيد لوهران جانبا من ذاكرتها الاسبانية و مكسبا كبيرا يجلب الزوار من كل مكان.
الغجر يحبون ايضا،رواية لوهران، للذاكرة الحية ، لبعث الأماكن من جديد ، لاستحقاق الحياة و للحرية ، دعوة للايمان بالانسان فقط خارج كل الصراعات الدينية و العرقية.
تعليقات
إرسال تعليق