- أخيرا وجدت من ينصفك يامي...
- بقلم: زينب ديف
- (رواية مي /ليالي ايزيس كوبيا/ للروائي واسيني الاعرج/ طبعة دار الاهلية2018.رواية كبيرة الحجم 298 صفحة ، تضمنت عنوانا فرعيا" ثلاثمئة ليلة و ليلة في جحيم العصفورية" جاءت مقسمة في ستة فصول ، و كل فصل حمل عنوانا خاصا، اضافة للتقديم بعنوان" في ملابسات مخطوطة العصفورية "و فصل أخير يشكل ختاما بعنوان هي لم تمت لكنها شبهت لهم.)
- رحلتي مع رواية مي/ ليالي إيزيس كوبيا:
- بدأت ليالي العصفورية بفضول كبير لمعرفة حقيقة ماحدث لمي.لمرآة مثقفة جميلة وساحرة. برزت في عصرها .ما سر مأساتها؟ .من وراءها ولما تمنت أن يأتي بعد موتها من ينصفها ؟.وجدتني بعد صفحات من الرواية, اتبع غيمة الناصرة أطارد مخطوطة ليالي العصفورية.أصاب بلعنها و اقتفي أثرها, رفقة باحث في قسم المخطوطات و مرافقته روز خليل.بعد رحلة شاقة و ممتعة بين مختلف أماكن مي و العديد من الشخصيات التي لها صلة بها.اتضحت الطريق نحو المخطوطة وتم العثور عليها أخيرا.
"لم أكن مجنونة. كنت مصابة فقط بآلام الفقدان التي لا دواء لها سوى الإنصات لها بهدوء و محاولة لمسها كما نلمس الضوء..."
- لاشيء سوى أن مي عادت للحياة...سحبتني من يدي و أدخلتني دوامة ليالي الوجع.أي لغة كانت تشبه لغة مي؟ أنفاسها, حركاتها و صوتها الذي بدأ يحكي خافتا خجولا إلى أن استقر و سكنني.كانت مي تتشكل في الصفحات الأولى من بداية المخطوطة.شيئا فشيء لأجدني في عمق قسوة يومياتها.أخرجت من بيتها في القاهرة وتم الاحتيال على أموالها و جل ممتلكاتها و أخذها ابن عمها جوزيف الى بيروت بحجة الراحة.
- فما مرت به مي من وجع الفقدان بعد رحيل والدها و أمها و جبران الذي كانت ترى فيه صورة الكاتب الكبير الروحي و الصديق الذي أحبته ,رفيق لغتها و مَصب عواطفها . ادخلها في حالة نفسية صعبة.بقيت في بيت جوزيف قرابة الشهرين و هي تترجاه بإرجاعها لبيتها. كان يعدها بوعود كاذبة ليسكتها.تساءلت لما لم تهرب؟.لما علقت أملا على كلام جوزيف؟ تبين لي بعدها بان مي كانت عاشقة لجوزيف زيادة و أن ما كانت تمر به جعلها في حالة ضعف حقيقية.كانت بحاجة لسند و لم يكن جوزيف أهلا له. جرى خلف أطماعه و أهوائه واستغلها بطريقة لا إنسانية و قد كان يجهزها لدخول العصفورية بحجة الراحة و الخوف على صحتها, و مارس ضدها العنف ببشاعة و أرغمها على دخول مستشفى الإمراض العقلية...
- و كانت بداية المأساة الحقيقية, أضربت عن الطعام خوفا من أن يدس لها سم .فنحفت كثيرا.وتدهورت صحتها.حين تصبح كاتبة بثقافة مي و ثقلها و فكرها تصرخ أنا لست مجنونة و تعامل بقسوة و سخرية .لكنها واجهت الوجع و الظلم بالكتابة و قاومت باستماتة " أكتب فقط,و أعاود الكتابة,لكي لا أموت اختناقا بالجنون و الجحود..لا خيار لي سوى أن أكتب.سوى أن أكتب.أكتب..."
"أن تموت و أنت تعرف لماذا,لا مشكلة و لا ندم,لكن أن يصنع لك الآخرون النهاية التي يشتهون, و قدرا مليئا بالضغائن.فتلك قسوة ما بعدها قسوة.أسوء موت يمكن أن يصيب حياة الانسان."
- الظلم الذي تعرضت له مي من أهلها كان كبيرا حتى أصدقاؤها من أشهر الكتاب و كبار الأدباء أجرموا في حقها. أمثال: العقاد.الرافعي . طه حسين .لطفي السيد... ماذا لو زارها أحد منهم؟. ماذا لو كتب أحدهم كلمة حق فيها؟. ماذا لو استمع لها أحد من هؤلاء الذين يدعون حداثة مزيفة ؟ ايزيس المثقفة التي بذلت جهودا كبيرة اتجاه المرأة و دافعت عن حريتها بحماس .يكون مصيرها بهذه القسوة و هذا التجاهل و الموت البطيء...
- ربما ما حدث لمي ليس سوى استمرارا لما نعيشه اليوم من عقد ذكورية متخلفة,و نفاق مجتمعي كبير.الرجل الذي يحب حرية المرأة و يساندها . لما يتعلق الأمر بامرأة تعنيه, يحاول امتلاكها و يصبح اكبر المعقدين, فيقيد حركتها و يحاول كتم صوتها..مثلا مي عشقها أغلب رواد الصالون و تغزلوا بها, بينما كان جلهم متزوجا و يرفض حتى أن يحضر زوجته للصالون.. من الصعب التخلص من هذه العقد و الازدواجية. شيء ما في الرجل الشرقي يجعله حاقدا على المرآة المثقفة الناجحة مهما ادعى غير ذلك.
"مثلك يا كامي أنا أيضا كنت أحبه ,لم يجد وسيلة لرد الجميل سوى زجي في هذا الفراغ المخيف,وهذه الظلمة الثقيلة."
- الشبه بين مي و بين مصير كامي كلوديل القاسي, التي دمرها صديقها النحات الشهير رودان و دفع بها في تواطئ مع عائلتها إلي مستشفى للإمراض العقلية، لينتهي بها الأمر مجرد مجنونة منسية.هذا ما يوسع الدائرة. لم يعد الأمر مجرد ذكورة طاغية لكن تتسع لما هو اكبر محاولة إلغاء المرأة التي قد تشكل منافسا.على المرأة هنا ان تبقى في ظل الرجل و اي محاولة لها للانفلات أو الاستقلالية ستكلفها الكثير.لا ننسى بان كامي نحاتة مميزة, في منحوتاتها الكثير من الرقة و الأنوثة و الحركية.و لمستها اتضحت بعدها في أعمال رودان.
"بلوهارت,هذا الملاك الأزرق الذي جاء لا أدري من أين؟بجناحين من نور."
- مي التي ظلت تناجي الرب,تصرخ و ترفض الوضع الذي فرض عليها رغم قسوة المكان و أسوار العصفورية.و غرفها البيضاء المعزولة و رائحة الأدوية التي تشبه الموت... كان لها في بلوهارت سندا و حضنا دافئا.فلم تكن شخصية بلوهارت الممرضة التي ساعدتها سوى إصرارا على الحياة ورغبة مستميتة في الاستمرار.كانت الأمل الخفي و الوجه الاخر للحياة ممكنة. مساعدتها لمي و انصاتها لاوجاعها و تحركها خارج أسوار العصفورية أفقدها الكثير و جعلها تطرد من عملها بعد انذارات متتالية. هذا ربما يعكس لنا بأن الوقوف مع الحق دائما مكلف.أن تقف مع حقيقة تؤمن بها يجب ان تكون مستعدا للعواقب و الخسارات كيفما كانت. ...
" البشر الخيرون هم من يعيد لنا الأمل و نحن في مدار الهاوية.."
- بقيت تصارع المصير القاسي في العصفورية, الا أن أخرجت منها نحو مستشفى نيقولا رابيز.دور مارون غانم كان عظيما.ذاك الرجل الطيب الذي زارها في العصفورية لأول مرة, ابدى لها استعداده بتسخير كل أمواله لمساعدتها و توكيل محام للدفاع عنها,كان تلك خطوتها الأولى لاسماع صوتها و ايصال صرختها. بعدها انتشرت قضية مي في مختلف الصحف ,ابرزها جريدة المكشوف التي ساندت مي في محنتها و فضحت المؤامرة التي نصبت لمي و دافعت عن الظلم الذي تعرضت له.و الكثير من الشخصيات المهمة التي ساعدتها ووقفت معها مثل آل الجزائري و آل الايوبي و الخوري و غيرهم.
"أأصدق أني مازلت على قيد الحياة, وأني مازلت قادرة على الفرح ؟"
- دخان ما تلاشى و سادت سكينة كبيرة.شيء من الحياة يعود لمي بعد ان التفتت حولها الصحافة و ساعدها الكثير لتخطي مأساتها. خصوصا بعد زيارة امين الريحاني لها و اعتذاره عن التقصير في حقها. لكن مي بقلبها الرحيم المسامح غفرت له و تفهمته و حكت له مامرت به. كان لها سندا ووقف بجانبها ,وساعدها في ايجاد سكنا لها في ضيعة الفريكا, أعالي جبال بيروت.لتستقر فيه بعدما تم الاستلاء على كل ممتلكاتها.
" إن الحجر على هذه النابغة هو حجر على الأدب العربـي وعلـى الأمـة العربيـة، وعلى العبقرية العربية، فلا تعدموها بسطرين من قلمكم.. وهي عاقلـة فـلا تجعلوهـا بحكمكم مجنونة.إن في عنقها قيدا، وهي السيدة الفريدة المبجلة، فاخلعوه عنها، ودعوهـا تتنـشق الهواء الطلق، فوراءها الملايين من الخلق ينتظرونها"
- استمرت جهود المحامي في متابعة قضية مي . أمر بتشكيل لجنة طبية لفحص مي و تأكيد سلامة عقلها.لكن اللجنة انتهت بتقرير حيادي. لا يثبت صحة مي العقلية و لا يدينها بالجنون.حالة التباس في وضعها.الا ان عرض عليها المحامي فؤاد حبيش فكرة مشتركة مع جمعية العروة الوثقى.بان تلقي محاضرة في الويست هول بالجامعة الامريكية و سيكون الموضوع من اختيارها.لم تتحدث عن أزمتها و الظلم الذي تعرضت له, كما توقع الجميع لكنها اختارت موضوعا أسمى, حول دور الكاتب اليوم و رسالته في الحياة العربية الصعبة.
- رغم تعبها و انهاكها ووضعها الصحي الصعب.ألقت مي المحاضرة برزانة ووعي كبيرين و بوزن أديبة كبيرة, مدركة لعمق المشهد الادبي ووضع الكاتب الراهن.حتى انبهر جميع الحضور.كيف لنابغة بحجم مي أن تتهم بالجنون و تعامل بهذه القسوة ؟"
"عزلتي لم تعد تطيقني أو لم أعد أطيقها,وأصبح من الصعب علي تحمل الناس الذين يتلونون مثل الحرباء"
- فرح مي كان كبير و امتنانها لكل من وقف بجانبها في محنتها .انتصرت أخيرا على الموت الذي فرض عليها لكن يدو ان مامرت به كان قاسيا جدا. نفسيا و جسديا عليها.
- كانت كل رغبتها في العودة للقاهرة .شيئ ما فيها يرغب في القاهرة و يحن لها بشدة.كان لها ما أرادت ,عادت لاحضان القاهرة مستسلمة كجندي أنهكته الحرب الظالمة.لا تطلب شيئا سوى البقاء في عزلتها و الراحة الأبدية, لترقد روحها بين والديها و أرضها.الى ان دفنت هناك حاملة معها سر ليالي العصفورية.
- أخرج من النص مثقلة بأسوار العصفورية. مسحورة بجبال بيروت و ثلوجها و ضيعة الفريكا. منبهرة بضجيج قاعة الويست هول بالجامعة الامريكية.بسحر القاهرة و الناصرة. بأجراس الكنيسة.و هدوء مدرسة الراهبات. و العديد من الاماكن التي جعلني النص اراها و اتنقل فيها و أشمها بل و أعرفها جيدا.
- محنة مي في النهاية هي محنة المثقف العربي,التي مازالت مستمرة حتى الان .
- ليالي ايزيس كوبيا بكل ما يحمل النص من وجع , ألم , أسرار كبيرة. وغصة حادة.و قيم انسانية عالية.رغم كل المحاولات في طمسه و قتله.و اخفاءه ظل صارخا ينتظر اليد التي تنفض عنه الغبار و تشكله بما يستحق. النص جعلني اشعر بالذنب, بالاجرام, بضرورة انصاف مي ولو بكلمة.
تعليقات
إرسال تعليق